المشاركات

في مديح التكرار

إن كان التاريخ حقًا يعيد نفسه، أين هي نقطة الذروة التي استقام عندها الحال وبدأنا بعدها بالتعثر؟ علينا إيجادها لاستقراء المستقبل ودحض ما قيل بأن شعوب المنطقة لا تتعلم من تاريخها وشواهده المتكررة. وقد يكون التاريخ ممتدًا إلى درجة يستحيل معها ملاحظة نقاط الذروة. غير أن مجرد طرح الفكرة قد يكون هو بحد ذاته محفزًا للخوض في غمارها، فالإنسان كائن يمتلك آلية التفكير ما وراء المعرفي، التي تمكنه من إعادة النظر في أفكاره وطروحاته، وصياغتها بأشكال مختلفة. قد يكون هذا التساؤل جزء من حالة الشجون الفكري التي نعيشها اليوم بتأثير صدمة ما بعد الكارثة. وقد يكون عبارة عن تداعي حر في جلسة على أريكة دكتور نفسي. قد ينساق بنا التفكير نحو رؤية أكثر تعمقًا في مفهوم التكرار، وملازمته لنا في تجلياته المختلفة، فالقلب يمضي نابضًا بتكرارية منتظمة، وحين يفقد انتظامه تتأثر الأعضاء الحيوية ويعتل الجسد. وأكاد أجزم أن كل ما يحيط بنا يخضع للتكرار بشكل أو بآخر. سواء على المدى القصير أو الطويل. العيش وسط دوامة من التكرارية قد يكون فكرة غرائبية بعض الشيء، ولكنه قدرنا المحتوم، والذي من المحتمل أن يكون مجرد حالة من العذاب الم

متلازمة الفراهيدي

نعيش اليوم موسم حصاد ما زرعه السابقون لنا من آثام ومفاسد، حاضر لا مناص منه، هُم مدينون استدانوا وانتفعوا، ونحن ورثنا عنهم عبء الالتزام بدفع فوائد الدين (بالمعنى المادي والمجازي). إن سلمنا جدلاً بضرورة حمل أوزارهم، وانعدام قدرتنا على انتاج ما نلبس، وما نأكل، وما نشرب، وما نركب.. هل يمكننا على الأقل التكسّب من متلازماتنا النفسية؟ واقعنا يساعد إلى حد كبير على إنتاج متلازمات تحمل عنصر الفرادة والأصالة. يمكننا العودة -على سبيل التجربة- إلى "عقدة الخواجة" التي ابتدعها الموروث المصري، والتي يمكن تعريفها بشكل مُنمّق بأنها توصيف لحالة الفجوة الطبقية وانعدام التكافؤ، والذي يساعد على انتاج أفراد من مستويات معيشية متدنية يتوقون لتقليد من هم أعلى منهم وأغنى منهم ماديًا. ويمكن تأصيل هذا المصطلح عبر ربطه مفاهيميًا بمقولة ابن خلدون «إن المغلوب مولع دائمًا بتقليد الغالب». غير أن الشعب المصري بتاريخه العريق وتجاربه المتنوعة وسليقة لسانه أضاف لمعجمه مصطلحات أخرى كـ "البغددة" التي تشير لحالة الرفاهية الزائدة، والتي تعود في نشأتها إلى ماضٍ كانت فيه بغداد عاصمة الوفرة الاقتصادية والرخاء

قوقعة البدايات

الطريق طويل وفيه ما فيه من عوائق، لكن ليس عليك الآن سوى ان تبدأ، لا تتردد، الخطوة الأولى هي بحد ذاتها قد تكون العائق الأول، تحقيقها يكفي لخلق فرصة الخطوة التالية. هو مونولوج يتكرر مع كل مشروع جديد، عفواً، اقصد كل "بداية" جديدة. دائماً ما يكون لدي الحافز للبدء، وكثيراً ما أتمكن بالفعل من توفير المتطلبات الأولية، بجهد خاص وبدعم من عائلتي ووالدي، مما يكفل لي إمكانية تحقيق عوامل انطلاق المشروع بالسويّة المطلوبة. ولأن "في البدء كانت الكلمة" دائمًا ما كنت استكمل المونولوج بوصف نصي قصير أضعه للمشروع لمخاطبة الآخر وتعريفه به، وبالتالي يكون مرئيًا له، فكما يقول سقراط: "تكلم حتى أراك" أنا هنا أتكلم مع الآخر ليتحقق لمشروعي وجوده المرئي أمامه، فالتصميم وحده لا يكفي بل يجب تدعيمه باتصال مباشر بالمتلقي عبر عامل النص والكلمة. الانطلاق دائمًا ما ترافقه تمنيات التوفيق من الأقارب والأصدقاء، والتي بدورها تعيدني إلى المربع الأول، أقصد مربع البحث، لعله يرمي لي بطوق نجاة لأتمكن من الرد بعبارات تختلف عن "الله يسلمك" و "الله يسعدك". أنا صدقًا مُمتن لدائرة الأق

من الفاعل الأول؟

تصحو في الصباح لأنك نُمت البارحة مساءًا الساعة التاسعة، تجوع وتأكل لأنك خلال ساعات نومك استنفذت كل ما أكلته البارحة على العشاء. تتصفح الفيس بوك وتصادف صورة لـ "ذا روك" بعضلاته المنتفخة، كُتب عليها اقتباس باللون الأحمر بخط Times New Roman مع إطار أصفر شديد السماكة "No pain, No gain" ذات العبارة الكليشيه الموجود في حمامات كل النوادي الرياضية. تتذكر بأنك صحوت باكراً على غير العادة ولابد لك أن تغتنم الفرصة! ، تعود في ذاكرتك إلى مشهد من فيلم أمريكي يصحو فيه البطل ويقوم بإعداد وجبة كورن فليكس بالحليب، إنك الآن تأكل المكدوس بما فيه من ثوم قادر على إتاحة المجال لك لتمشي على بساط أحمر وسط الجموع في سوق الحمدية، دون أن يقترب منك أحد على مسافة أقل من عشرة أمتار ! . الكورن فليكس بانتظارك منذ عام 2005 في أسفل درج البصل في النمليّة البلاستيكية (رحم الله النمليّات الخشبية) ، هل يؤكَل الكورن فليكس مع حليب بارد أم ساخن؟ ، سؤال جوهري، البطل في الفيلم لم يقم بتسخينه، إذاً لابد أنه لا يؤكل إلا مع حليب بارد، لكن الكورن فليكس يطفو فوق الحليب وكأنه ينأى بنفسه أن يختلط به، وقد تكون البرودة

عن السؤال الممنوع في منزلنا

  "بتحبّي ماما ولّا بابا؟" سؤال تعاهدنا انا وزوجتي ألا نطرحه على ابنتنا، التي بلغت عامها الثاني لتعلن معه عن ثورتها الأولى وخروجها عن نطاق سنوات المهد والرضاعة. هي اليوم تنتقل لمرحلة جديدة من مراحل الوعي، كل الكلمات التي تعبر إلى مسامعها تعود لتُنطق على لسانها، ولكن بطريقتها الخاصة، ليس تكرارًا ببغائيًا، معيارها في انتقاء الكلمات يعتمد على مدى سهولة نطقها ومدى تفاعلنا معها. هي الآن لا تستطيع إعادة توظيف الكلمات في عبارات مختلفة المعنى، ولكنها تمكنت من صياغة اسلوبها الخاص في التعبير، الذي لا يخلو من الصعوبة، حيث يظهر ذلك بشكل واضح حينما تقوم بتدعيم مفرداتها بتعابير حركية لإيصال الفكرة. اللغة التي نستخدمها يومياً تُصبح مع التكرار أفكاراً واعتقادات تُحرك سلوكنا. يسهل تبيان مدى تأثير اللغة على نموذج الطفل، فهو يمارس سلوكًا عدائيًا حينما يردد كلمات عدائية المعنى - وقد لا تكون كذلك - ففي بعض الأحيان تجد أن الطفل يربط بين كلمة ومعنى مخالف لفحواها، كأن يعبر عن غضبه بنطق اسمه بنبرة تصاعدية لأنه سابقًا كان قد سمع أحد والديه يناديه وهو غاضب - ولا عجب في ذلك - فالعقل يعني "الربط&quo

آمال شاقّة

لم تعد الشعارات قادرة على تحريكنا، والـ "نا" هنا تعود لتلك الأجساد المنهكة المأزومة، المنتظرة لخلاصها بين طيات الأيام. تلك الشعارات كان لها أثر يوماً ما، حينما كان هناك قوة لممارسة مضامينها، فحق لنا حينها ان نحاول وأن نأمل وأن نرتدي الأعلام ونتداول ما سطرته الأقلام من مقولات قصيرة عن البطولة والشغف والقوة والأمل. مات ونّوس وهو يحمل شعلة الأمل، إنه سعدالله ونّوس، الكاتب والمسرحي السوري الذي لازالت مقولته تحلق في فضائنا الرقمي: "إننا محكومون بالأمل" ، قالها وهو يصارع هزائمنا على الصعيد الجمعي، وهزائمه على الصعيد الذاتي، فقد داهمه ذلك المرض الذي اعتدنا ان نعطيه صفة الغائب مجازاً، وهو "السرطان" الذي يغيب عن ألسنتنا ولكنه حاضر بيننا. المقولة كان لها صدًا واسع بين مثقفي المجاز، ففي الوسط الفني هناك من تبناها في أطروحاته، وهناك من أدخلها في سياقات درامية و"كليشيهات" اختزلت المعنى باللامعنى. التداول أفقدها قيمتها فبقيت كغيرها من المقولات الحالمة بأمل موجود في بقعة ما من بقاع أضوائنا الخافتة. ونّوس الذي آثر المرور عبر مساحات آمنة لم يكن قادراً على تحمل ال

تلبُّد عاطفي

"لكل عصر جاهليته، ونحن نجمع جاهلية كل العصور" عبارة قالها الشاب مصطفى توكل قبل أن يذاع خبر انتحاره بتاريخ 21 يونيو 2021 ، وكانت الأنباء حينها ترجح بأن سبب الانتحار هو تعاطف الشاب مع حادثة وقعت قبلها بأيام وهي مقتل الطالبة نيرة، وذلك بناءًا على ما ورد على لسانه في منصة فيسبوك حيث قال تعليقاً على الحادثة: "يبكى قلبى حزنا عليكي وانا لم اعرفك حتى فما حال امك!!". "الإنتحار" كلمة أخذت حيزاً أكبر وأعم من معناها الحرفي، فالمنتحر هو الشخص الذي قتل نفسه نحراً، لكن الكلمة باتت ترتبط بقتل النفس أياً كانت الطريقة. لا أدري حقاً إن كانت حادثة مقتل نيرة هي المؤثر الوحيد الداعي لإنتحار الشاب أم لا، وليس للإنتحار أي مبرر بجميع الأحوال. ولكنني أكاد أجزم اليوم بأن مصطفى كان يمتلك ما نكاد نفقده من قدرة على التعاطف الفعلي مع خبر حادثة قتل لا تربطه بضحيتها أي صلة، وأننا على المستوى الجمعي أصبنا بوباء التلبد العاطفي، هذا الوباء الذي استعصى بنا لدرجة عدم تجاوز حدود الأنا لذكر "نا" الجماعة! نحن كائنات حسية تستقبل وترسل الإشارات، سواء السلبية منها أو الإيجابية، وتلك الإشار