إشكالية الإنتماء

 مع كل محاولة لإيجاد توصيف للواقع المعاش إقليمياً نلاحظ تزايداً في عوامل التفرقة، سواء على الأساس العرقي أو الديني أو الفكري، وظهور أيديولوجيات سياسية تحمل في أجنداتها مبادئ وتوجهات متباينة تلعب دوراً أساسياً على طاولة النزاع، عبر تشكيل شريحة جماهيرية تخضع للتحريض العقلاني أحياناً والعاطفي غالباً، وتنتهي بالتبني الجماهيري المطلق والمتعصب لرأي الأغلبية الأوحد الذي لا يقبل النقيض.


المشكلة تكمن في سهولة توجيه الجماهير واقتيادها وفي آلية التفكير المنطقي التي تنتهجها؛ إذ إنه حالما يتشكل لدينا تجمع بشري يخضع لدافع تحريضي محدد نحو أفكار محددة يتكون لدينا جمهور انفعالي يكون التلاعب به مستساغاً، ولو أنه قد يكون للفرد بحد ذاته قدرة أكبر على التفكير العقلاني، إلا أن الانتماء الجماهيري قادر على إذابة ذاتيته الخاصة وتطويعه للانصياع للغالبية المطلقة من الجمهور.


لا شك أن لهذه التوجهات الضرر الأكبر الذي يكمن في تشتيت صورة الانتماء الوطني والقومي لدى الفرد، وتفكيك التكوين البنيوي الاجتماعي للشعوب عبر شعارات وظيفية تفرضها الظروف المرحلية، تطفو على الساحة السياسية، وتزيد من تعقيد خارطة الحل السياسي مع احتدام الخلاف بينها وتبنّي كل منها خطاباً موجهاً يزيد من حدة الصراع.


يقسم علماء المنطق التطور الإدراكي للفرد لأربع مراحل: الإدراك الحسي – الإدراك الخيالي – الإدراك الوهمي – الإدراك العقلي.


ويصح القول إن المجتمع البشري عموماً مرَّ بثلاثة أطوار في التفكير كما هي على المستوى الفردي، بدءاً من التفكير الميثولوجي الأساطيري، ومروراً بالتفكير المنطقي التقليدي؛ حيث كان التحول الأول نحو المنطق والمنهجية في التفكير على يد فلاسفة اليونان من أمثال "سقراط" و"أفلاطون" و"أرسطوطاليس" الذي وضع الصورة النهائية لهذا المنطق، ووصولاً إلى طور التفكير المنطقي العلمي في العصر الحديث.


إذا نظرنا في عمق التفكير الانتمائي الأيديولوجي من زاوية المنطق، سنجد تبنياً صارخاً للمنطق الأرسطي، ومحور هذا المنطق يقوم على أساس القياس التسلسلي من المعلوم إلى المجهول عبر إيجاد علاقة سببية بين مقدمات مسلم بها للوصول لنتيجة واتخاذ الحكم، كأن يقال: كل إنسان فانٍ، وسقراط إنسان، إذن سقراط فانٍ، ويؤخذ على هذا المنطق بأنه يحتمل المغالطة فهو قادر على تبرير نقيض الشيء تماماً كما هو قادر على تبرير الشيء بحد ذاته، كما أنه يتعاطى مع الحقيقة على أنها مطلقة معزولة عن الواقع، وهذا ما لا يتوافق مع مقتضيات الحياة الاجتماعية، والأخذ به اليوم لا يمثل إلا محاولة للوقوف في وجه تيار التطور الفكري الجارف.


بينما يأتي المنطق العلمي الحديث لينتقد تعاريف أسلافنا اليونان ومفاهيمهم عن منهجية التفكير السليم، فلا وجود للحقيقة المطلقة، وإنما هي مجرد فرضية يفرضها الإنسان لحل مشاكله، أي أنها نسبية بحيث يمكن تشبيهها بالهرم متعدد الأوجه، والإنسان لا يرى من هرم الحقيقة إلا ذاك الوجه المحدد له ضمن إطاره الفكري، فهو مجبول على أن يرى الحقيقة من خلال منظار مقاييسه ومصالحه وبتأثير من المجتمع المحيط به.


يقول هيغل: "كل شيء يحتوي على نقيضه في صميم تكوينه".


لا شيء صحيح بالمطلق، الحكم على صحة المعتقد مبني على مدى قدرة هذا المعتقد على تحليل الارتباط بين معطيات ووقائع الأزمة الراهنة المطروحة على طاولة النقاش.


والتكتلات السياسية تتداول ذات المعطيات المتعلقة بالظروف المرحلية، والخلاف بينها غالباً ما يقوم على اختلاف معايير وأساليب الربط والتحليل المنطقي، وعيب التفكير المنطقي الأرسطي -كما أسلفنا- أنه يعتمد على معايير وحقائق ثابتة معزولة عن الواقع؛ لذا فإن هذه التكتلات لا تستطيع الوصول لمواقف تتضمن مقاربة موضوعية مع مقتضيات الحل السياسي التوافقي.


أحد أبرز العوامل التي ساعدت المجتمع البشري في نقلته النوعية من البدائية الانفعالية إلى الحياة المدنية العقلانية هو ما أسهم به العلم من تغيير في آلية التفكير المنطقي، ومن المؤسف ما نراه اليوم من قولبة لأفكار الأفراد وتأطير لمداركهم وسلوكياتهم والتسليم الدوغمائي الكامل للرأي والتوجه الجمعي، ومن الأولى بالفرد في ظل ما نشهده اليوم من انقسام ونزاع بين الفرق والتكتلات السياسية أن ينأى بنفسه عن الانسياق وراء الشعارات، ويتجه نحو تكوين عقلية تحليلية مستقلة، فالانتماء الأول والأخير للعقل.

تعليقات