تلبُّد عاطفي

"لكل عصر جاهليته، ونحن نجمع جاهلية كل العصور" عبارة قالها الشاب مصطفى توكل قبل أن يذاع خبر انتحاره بتاريخ 21 يونيو 2021 ، وكانت الأنباء حينها ترجح بأن سبب الانتحار هو تعاطف الشاب مع حادثة وقعت قبلها بأيام وهي مقتل الطالبة نيرة، وذلك بناءًا على ما ورد على لسانه في منصة فيسبوك حيث قال تعليقاً على الحادثة: "يبكى قلبى حزنا عليكي وانا لم اعرفك حتى فما حال امك!!".
"الإنتحار" كلمة أخذت حيزاً أكبر وأعم من معناها الحرفي، فالمنتحر هو الشخص الذي قتل نفسه نحراً، لكن الكلمة باتت ترتبط بقتل النفس أياً كانت الطريقة.

لا أدري حقاً إن كانت حادثة مقتل نيرة هي المؤثر الوحيد الداعي لإنتحار الشاب أم لا، وليس للإنتحار أي مبرر بجميع الأحوال. ولكنني أكاد أجزم اليوم بأن مصطفى كان يمتلك ما نكاد نفقده من قدرة على التعاطف الفعلي مع خبر حادثة قتل لا تربطه بضحيتها أي صلة، وأننا على المستوى الجمعي أصبنا بوباء التلبد العاطفي، هذا الوباء الذي استعصى بنا لدرجة عدم تجاوز حدود الأنا لذكر "نا" الجماعة!

نحن كائنات حسية تستقبل وترسل الإشارات، سواء السلبية منها أو الإيجابية، وتلك الإشارات لها القدر الأكبر من الأهمية لإشباع إحتياجنا للتواصل والتفاعل.

يحدث الخلل حينما نفتقد ذلك الاتزان بين مقدار ما نحن بحاجة للحصول عليه من تعاطف، وما نحن على استعداد فعلياً لبذله للآخر في المقابل، لتكون النتيجة شديدة التطرف، سواء لمصلحة الأنا أو لمصلحة الآخر.

مع الإنحياز التأكيدي للذات تكون حالة التطرف للأنا هي الأرجح، ليتولد معها حالة من وهم الاستحقاق، الوهم الذي يسقطه الفرد على أرض الواقع بإدمان لتمثيل دور الضحية، وتطفو معه مجموعة من السمات على سطح شخصية الضحية، سواء في تمحوره حول ذاته أو في تعامله الأناني والنفعي مع الآخر.

ومع إدراكنا لحقيقة ما أصابنا اليوم على المستوى الجمعي من عصاب التلبد العاطفي، ندرك مدى صعوبة أن يكون الممارس لدور الضحية هو في الواقع يستعيض به عن دوره والتزامه الفعلي الأبوي/الأمومي، وأن يكون المستضعف الحقيقي هو نموذج لـ "مصطفى" في زمن مقتل "نيرة"..

تعليقات