من الفاعل الأول؟

تصحو في الصباح لأنك نُمت البارحة مساءًا الساعة التاسعة، تجوع وتأكل لأنك خلال ساعات نومك استنفذت كل ما أكلته البارحة على العشاء. تتصفح الفيس بوك وتصادف صورة لـ "ذا روك" بعضلاته المنتفخة، كُتب عليها اقتباس باللون الأحمر بخط Times New Roman مع إطار أصفر شديد السماكة "No pain, No gain" ذات العبارة الكليشيه الموجود في حمامات كل النوادي الرياضية. تتذكر بأنك صحوت باكراً على غير العادة ولابد لك أن تغتنم الفرصة! ، تعود في ذاكرتك إلى مشهد من فيلم أمريكي يصحو فيه البطل ويقوم بإعداد وجبة كورن فليكس بالحليب، إنك الآن تأكل المكدوس بما فيه من ثوم قادر على إتاحة المجال لك لتمشي على بساط أحمر وسط الجموع في سوق الحمدية، دون أن يقترب منك أحد على مسافة أقل من عشرة أمتار ! . الكورن فليكس بانتظارك منذ عام 2005 في أسفل درج البصل في النمليّة البلاستيكية (رحم الله النمليّات الخشبية) ، هل يؤكَل الكورن فليكس مع حليب بارد أم ساخن؟ ، سؤال جوهري، البطل في الفيلم لم يقم بتسخينه، إذاً لابد أنه لا يؤكل إلا مع حليب بارد، لكن الكورن فليكس يطفو فوق الحليب وكأنه ينأى بنفسه أن يختلط به، وقد تكون البرودة قد لسعت قفاه فحاول الهرب ! ، عموماً الآن عليك بأكله سريعاً وترك الصحن للتمرن بحيوية كما في الـ Jump-Cuts والنقلات السريعة المعروضة في الفيلم.

أين ومتى وقع الفعل الأول؟ ومن الفاعل؟ 

تصحو لأنك نمت.. تأكل لأنك جعت.. كذا لأنك كذا.. دائمًا هناك "لأنك" ودائمًا هناك علاقة سببية. إنها سلسلة طويلة من ردود الأفعال وردود الأفعال. ولكن المنطق والفيزياء تقول: "لكل فعل رد فعل". أين ومتى وقع الفعل الأول؟

في لقاء مصوّر له أشار عالِم الاجتماع العراقي د. علي الوردي إلى أن الشخص في طباعه وتصرفاته هو نتاج مجموعة من العوامل الخارجية والداخلية، وحينما يرتكب جريمة نكون أمام خيارين: إما أن نظلمه عبر معاقبته، أو أن نظلم المجتمع عبر عدم معاقبته. وهو في هذا السياق يشير إلى أن العوامل هي المحرك الجوهري للفرد.. شاهدت اللقاء واتسعت لدي مساحة التساؤل لتشمل السؤال الأهم: من الفاعل الأول؟

أنا الآن أكتب هذا النص لأجد أرض خصبة أزرع فيها البذرة التي وضعتها هذه الأسئلة في رأسي، لا أدري متى بدأت بمراودتي ولكن لابد أن هناك سبب ما قد أكون أجهله أو نسيته، الشيء الوحيد الواضح لي أنها تماماً كالنبوءة المحققة لذاتها.

"الحق" بين الدين والقانون، هل الإجابة تكمن هنا؟

خلال سنوات دراستي في كلية القانون (وهي بالمناسبة تسمى كلية "القانون" في الأردن والعراق، وكلية "الحقوق" في سوريا ومصر، وهذا موضع خلاف) عذراً على الفاصل، لنعود لموضوعنا.. خلال سنوات الدراسة تعرفت على "الحقوق والواجبات" وهما مصطلحان أدركت مدى قيمتهم في أول دقيقة من أول محاضرة أتلقاها في هذا التخصص، وأدركت بعدها مدى جوهريتهم ومدى تشعبهم في كافة مساقات القانون، إنهما مقاربان للفعل ورد الفعل، أمام كل حق هناك التزام يجب تأديته، غير أن هناك نقطة دائماً ما كانت موضع نقاش وهي: هل الحق أسبق من الواجب؟

هو سؤال ونقاش كثيراً ما كان يميل بنا نحو بحور الفلسفة ومواقف مفكريها ومدارسها. في القانون هناك "أهلية وجوب" و "أهلية أداء"، وبالمختصر، يمكن تعريف أهلية الوجوب بأنها: ما يقتضيه وجود الشخص من وجوب للحق له وللالتزام عليه. وأهلية الأداء: هي صلاحية الشخص -من الوجهة القانونية- لاستعمال الحقوق وأداء الالتزامات، وأن يباشر التصرف بمقتضى القانون ليكتسب حقاً أو يتحمل التزاما.

أهلية الوجوب تسبق أهلية الأداء، إذ يتحقق ثبوتها منذ الولادة في صورة حقوق الطفل. أما أهلية الأداء فهي تبدأ مع بلوغ السن القانوني وتمتد لما بعد الوفاة في صورة الإرث والإيفاء بالتزامات المتوفي. وبذلك يصح القول بأن الحق يرافق الانسان منذ الولادة وله الأسبقية على الالتزام، ولا يشير ذلك إلى طغيان الحق على الواجب، فالعدالة تقتضي الموازنة بين الحقوق والواجبات. 

من وجهة نظر إسلامية نجد أن كلمة "الحق" وردت في القرآن الكريم في سياقات ومعاني متعددة، نذكر منها الآتي: هو "نقيض الباطل" حين ورد في قوله تعالى:  «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ» [الحج:62] ، وهو "العدل" حين ورد في قوله تعالى: «يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ» [النور:25].

كما أن "الحق" هو أحد أسماء الله الحسنى، المتصف بديمومة الوجود فلا يلحقه زوال ولا فناء. يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: "الحق" في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به، فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفا، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفا.

لا أدعي المعرفة بعلوم الدين، التفاسير الواردة أعلاه اقتبستها خلال كتابتي لهذا النص. أنا هنا أطرح تساؤل حول مدى التقارب بين معنى "الحق" حين ورد في الإطار القانوني، ومعناه حين ورد في الإطار الديني. ومدى القدرة على توظيف المعنى للإجابة على السؤال: من الفاعل الأول؟ ، في كلا الطرفين للحق معنى واضح زمنيًا، لا يفنى وله الوجود أولاً، الحق هو الله.. الله هو الفاعل الأول، هو الخالق والمسيّر والمخيّر.

تعليقات