قوقعة البدايات

الطريق طويل وفيه ما فيه من عوائق، لكن ليس عليك الآن سوى ان تبدأ، لا تتردد، الخطوة الأولى هي بحد ذاتها قد تكون العائق الأول، تحقيقها يكفي لخلق فرصة الخطوة التالية.

هو مونولوج يتكرر مع كل مشروع جديد، عفواً، اقصد كل "بداية" جديدة. دائماً ما يكون لدي الحافز للبدء، وكثيراً ما أتمكن بالفعل من توفير المتطلبات الأولية، بجهد خاص وبدعم من عائلتي ووالدي، مما يكفل لي إمكانية تحقيق عوامل انطلاق المشروع بالسويّة المطلوبة. ولأن "في البدء كانت الكلمة" دائمًا ما كنت استكمل المونولوج بوصف نصي قصير أضعه للمشروع لمخاطبة الآخر وتعريفه به، وبالتالي يكون مرئيًا له، فكما يقول سقراط: "تكلم حتى أراك" أنا هنا أتكلم مع الآخر ليتحقق لمشروعي وجوده المرئي أمامه، فالتصميم وحده لا يكفي بل يجب تدعيمه باتصال مباشر بالمتلقي عبر عامل النص والكلمة.

الانطلاق دائمًا ما ترافقه تمنيات التوفيق من الأقارب والأصدقاء، والتي بدورها تعيدني إلى المربع الأول، أقصد مربع البحث، لعله يرمي لي بطوق نجاة لأتمكن من الرد بعبارات تختلف عن "الله يسلمك" و "الله يسعدك". أنا صدقًا مُمتن لدائرة الأقارب والأصدقاء المحيطة بي، والذين لازالوا على عهدهم في دعمي رغم بداياتي الكثيرة.

الانتقاد يمكنك توظيفه كمعطى أولي للتفنيد والرد، أما المديح فهو غير قابل لإعادة الصياغة، إنه يتطلب خلق كلمات فريدة تعطي للمرسل حقه، وتثير فيه مشاعر إيجابية بمستوى أعلى مما أثاره المديح فيك.

مُمتن لعائلتي الصغيرة على دعمهم المادي والمعنوي، وعلى صبرهم المضاعف حينما لا يخلو أي مجلس أكون فيه معهم من كلامي حول أحلامي وطموحاتي وما أرغب بعمله.

أنا نرجسي لأبعد الحدود، كل مرايا البيت اعتادت علي. أذكر أنني حينما كنت طالبًا كنت أحوم  أثناء ساعات الدراسة في جميع الغرف حاملاً الكتاب ومردداً لما أحاول حفظه من نصوص. لا أنظر إلا في ثلاث مواضع: الأول هو الكتاب لالتقاط العبارات. والثاني هو السقف لتكرار العبارات. والثالث هو المرايا!.

المرايا تساعدك على النظر إلى ذاتك، لكنك تنظر في زاوية واحدة فقط، وهي الجهة المقابلة لوجهك بشكل مباشر، أما الجهات الجانبية اليمنى واليسرى فلا يمكنك النظر فيها، ناهيك عن الجهة الخلفية. ولربما هناك حكمة في ذلك. إن نظرك في العالم بما فيه من شخوص وأفكار يقتصر على زاوية واحدة فقط، وعليك الاستعانة بغيرك لتتمكن من الإحاطة بكل الزوايا. غير أن الغرق في المرايا يعميك عن رؤية كل ما هو غيرك، وقد يسرق منك حياتك إن كنت تقود السيارة.

يُذكر أن أحد الأشخاص ذهب في زيارة لمنزل أحد الحكماء، دخل إليه ليعرض عليه مشكلته، وهي أنه قليل التركيز وغير قادر على تحقيق النجاح في حياته، أعطاه الحكيم ملعقة وبيضة وطلب منه أن يضع البيضة في حوض الملعقة ويمسك بقبضتها متجولاً في المنزل وعائداً إليه، مع تحاشي وقوع البيضة بالطبع. مضى من الوقت نصف ساعة وعاد إليه تغمره السعادة، لقد نجح في المشي في كل أرجاء المنزل والبيضة لازالت في حوض الملعقة. إلا ان الحكيم باغته بمجموعة من الأسئلة: هل رأيت أثناء تجولك تمثال الحصان الموجود في غرفة المعيشة؟ هل شاهد أزهار الحديقة وشممت عبقها؟ هل تأملت في اللوحات المعلقة على الجدران؟. التركيز في نقطة واحدة يمنع عنك القدرة على رؤية نقاط كثيرة جميلة في حياتك..

الملعقة والبيضة في القصة هي الهاتف في يدي حينما أجلس مع العائلة، أنا معهم وبعيد عنهم، تركيزي فيما أرغب بعمله سرق مني وقتاً كان فيه جدوى وقيمة أكبر إن أمضيته حقاً معهم.

يًذكر -أيضًا- أن أحد الملوك أقام لابنته في يوم زواجها حفلاً مهيبًا وأهداها عقدًا من الألماس واللؤلؤ، وبعد أيام ضاع العقد وراح كل من في المملكة يبحثون عنه، إذ أن الملك كان قد أعلن عن جائزة بقيمة كبيرة لمن يجده، مضت الأيام وفي أحد ليالي الشتاء والبرد القارص كان هناك فلاح يمشي عند حافة البحيرة، رأى في الماء لمعة غريبة، اقترب وحدّق النظر ليجد أن اللمعة صادرة عن العقد المفقود. وعلى فوره قفز في الماء واستمرت محاولاته لإيجاد العقد. لم يستطع مقاومة الصقيع ووجدوه في صباح اليوم التالي جثة هامدة قتلها البرد القارص.. العقد كان يتعلق على جذع الشجرة والفلّاح قتله الوهم حين رأى انعكاس صورة العقد على الماء.

كل الأفكار النيّرة لا تعدوا عن كونها مجرد أفكار إن وضعت في عقل شخص نرجسي. دائمًا ما كانت الفكرة تمثل بالنسبة لي مشروعًا سيكون متكامل الأركان إن تم اسقاطه على أرض الواقع. قصة أنا البطل فيها ولابد لها أن تنجح، تتراءى لي وأحكيها للجميع، لكنها في الواقع مجرد حكاية حاكها ونسجها خيالي النرجسي.. الأنا تخلق وهم النجاح، والوهم يُبدّد الفكرة.

«نصف الحل يكمن في معرفة المشكلة» معرفتي بمدى سلبية تمحوري حول ذاتي اتاحت لي إمكانية التفكير بأبعاد مختلفة، ومكنتني أخيراً من خوض غمار التجربة والخروج من قوقعة البدايات.

تعليقات