قراءة في واقع السلطة السورية: جدليّة الثابت والمتحرك
تبددت مشاعر الخوف شيئًا فشيئًا، وانكشفت أمامنا معالم الأفق، فأصبح بإمكاننا إدراك ما كان غائبًا والتعبير عمّا كان مكتومًا، وبدأ يتشكل لدينا شعور متزايد بقدرتنا على توظيف هذه المساحة المكتسبة من الحرية في إعادة تشكيل واقعنا نحو صورة أكثر إشراقًا، رسمناها في مخيلتنا، وربطنا تحقيقها بالأمل الذي وضعناه على عاتق ولاة أمرنا الجدد. أنصتنا إليهم، وتأملنا في خطابهم، بل وتماهينا مع بعض تطلعاتهم. وأدركنا تدريجيًا شخوص وأبعاد السلطة الجديدة، وبدا لنا أن ما يُقال قد يحمل معاني مختلفة، فللكلمة صورة في ذهن قائلها، وأخرى في ذهن متلقيها، وما بين الصورتين قد تتسع الفجوة.
في عهد النظام السابق، كانت السلطة الاستبدادية تُمارس بأسلوب مركزي وعمودي، من خلال هرمية صلبة تضع الحكم في يد جهة واحدة، تنساب منها القرارات إلى الأسفل، عبر طبقات من المسؤولين والجهات المتنفذة. هذا النمط من السلطة يقوم على طمس الحدود بين الواقع المدني والعسكري بشكل منهجي كجزء من استراتيجية تعزيز السيطرة المطلقة على مفاصل الدولة والمجتمع، والهيمنة على كافة مناحي الحياة، وتسييس المؤسسات مثل النقابات والجامعات والإعلام من خلال تعيين موالين للحزب الأوحد في مناصب قيادية. هذه السياسات لم تكن مجرد وسيلة للسيطرة، بل كانت أداة لتعزيز النظام الشمولي وإلغاء مقومات المجتمع المدني.
واليوم، لا يمكن فهم المشهد السوري الراهن دون دراسة حالة اغتراب القوى الأصولية خلال عهد النظام السابق، التي أتاحت لها الفرصة لإعادة التكتل بعد سقوطه، مدعومة بمظلومية الأكثرية على المستوى الجمعي، ومستفيدة من الخلل بين ما هو مدني وعسكري على المستوى البنيوي. وهنا انتقلت هذه القوى من الهامش إلى مركز السلطة.
ومظاهر الاغتراب في الحالة السورية لم تسقط مع سقوط النظام السابق، وهي اليوم لا تقتصر على البُعد الغيري فقط، أي على علاقة "الذات" بالآخر المختلف أيديولوجيًا أو سياسيًا، بل تمتد أيضًا إلى الداخل البنيوي للنظام الأصولي ذاته. إذ إن التناقض لا يقتصر على القوى الخارجة عن بنية الحكم، بل ينخر في صلب الكيان السلطوي نفسه، حيث يتجلّى في وجود مستويين متوازيين ومتناقضين من الحوكمة: سلطة عُليا ذات نطاق حوكمة عمودية تشكل الوجه السياسي الخارجي للدولة، وسلطة دُنيا ذات نطاق حوكمة أُفقية تمارس عملها داخليًا وتستمد مشروعيتها من الحامل الاجتماعي السوري السني الذي يتبنى المبادئ الإسلامية بشكل قوي كجزء من هويته الثقافية والدينية. وهنا تظهر الإشكالية الجوهرية بين السلطتين، والتي تتمثل في ربط الثابت بالمتحرك؛ إذ أن السلطة الداخلية تعمل ضمن ميدان المقدّس-الثابت وتتبنى أدبيات الفكر السلفي الراديكالي، مثل مفهوم "الحاكمية"، وتستند إلى مؤسسات دينية مؤثرة كـالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي أصدر فتاوى داعمة للجهاد، سواء خلال الثورة السورية أو اليوم خلال العدوان الإسرائيلي على غزة. في حين أن السلطة الخارجية تعمل ضمن ميدان المدنّس-المتحرك وتمارس العمل السياسي والدبلوماسي بوصفها الجهة المضطرة اليوم إلى التعامل مع وقائع دولية مركبة تفرض عليها تبني أدوات السياسة الواقعية، بما في ذلك التفاوض والمساومة حتى مع جهات لطالما كانت في خطابها الرسمي موضع عداء أيديولوجي، كالكيان المحتل، وفرنسا التي تُعد رمزًا للعلمانية الغربية. هذا الانخراط في شبكات المصالح الدولية، وإن بدا ضرورة لحماية بقاء النظام، يضع السلطة الخارجية في موقف دقيق، إذ تجد نفسها مطالبة بالخروج من "عنق الزجاجة" السياسي لتخفيف حدة الاحتقان داخل بنيتها السلطوية، وخصوصًا تجاه سلطة الداخل.
وهنا نستذكر ما كتبه بطرس البستاني في صحيفته "نفير سوريا"، تعليقًا على الفتنة الطائفية التي اندلعت نيرانها في لبنان وسوريا عام 1860:
"وما دام قومنا لا يميزون بين الأديان التي يجب أن تكون بين العبد وخالقه والمدنيات التي هي بين الإنسان وابن وطنه أو بينه وبين حكومته، والتي عليها تبنى حالات الهيئة الاجتماعية والنسبة السياسية، ولا يضعون حداً فاصلاً بين هذين المبدأين الممتازين طبعاً وديانة، لا يؤمل نجاحهم في أحدهما ولا فيهما جميعاً كما لا يخفى" ومن هنا: "وجوب وضع حاجز بين الرياسة، أي السلطة الروحية، والسياسة، أي السلطة المدنية. وذلك لأن الرياسة تتعلق ذاتاً وطبعاً بأمور داخلية ثابتة لا تتغير بتغير الأزمان والأحوال، بخلاف السياسة فإنها تتعلق بأمور خارجية غير ثابتة وقابلة للتغير والإصلاح بحسب المكان والزمان والأحوال. ولذلك كان المزج بين هاتين السلطتين الممتازتين طبعاً، والمتضادتين في متعلقاتهما وموضوعهما، من شأنه أن يوقع خلافاً بيننا وضرراً واضحاً في الأحكام والأديان حتى لا نبالغ إذا قلنا إنه يستحيل معه وجود التمدن وحياته ونموه"
ولما كان الانقسام البنيوي يُنتج حالة من التوتر الداخلي المستمر، نجد أن السلطة الدُنيا لا ترى في أدوات السياسة التقليدية إلا انحرافًا عن الثوابت الدينية، بينما تجد السلطة العُليا نفسها مضطرة لممارسة السياسة بصيغها الواقعية والمعقدة، الأمر الذي يضع الطرفين في حالة شد دائم.
فالسلطة الداخلية/الدُنيا، ذات المرجعية الدينية الصلبة، ترى في هذه التحركات السياسية خيانة للمبادئ وثوابت الأمة، ما يؤدي إلى حالة من التململ والتعبير العنيف عن الرفض، تظهر في مظاهر التعدي على الأفراد والممتلكات، بل وتتطور أحيانًا إلى أشكال من الفوضى مثل حالات الخطف والترويع. هذه الممارسات ليست مجرد حوادث منفصلة، بل هي انعكاس مباشر لحالة الانقسام داخل النظام بين منطقين للحكم لا يلتقيان إلا في لحظة الصِدام.
في ضوء ما تقدم، يتضح أن المشهد السوري الحالي يتسم بتعقيد بنيوي عميق يُعزى إلى الصراع بين منطقين متناقضين داخل السلطة نفسها: منطق النص الديني الثابت ومنطق السياسة المتحركة. هذا التنافر لا يهدد فقط استقرار النظام من الداخل، بل يعمّق من حالة الاغتراب والتهميش التي تعاني منها شرائح واسعة من المجتمع السوري. ومع استمرار هذا الانقسام دون أفق لتسوية مفاهيمية أو مؤسسية، يبقى مستقبل الحوكمة في سوريا مرتهنًا بقدرة النظام على إعادة تعريف العلاقة بين المقدّس والمدّنس، بين الثابت والمتغيّر، بشكل يُفضي إلى انسجام داخلي يمكّن من بناء دولة مدنية تتسع للجميع.
بصراحة كلامك واضح جدااا بس ياريت ما ننسا العالم يلي بدمها النظام السابق انت يمكن عم تحكي عن بعد لو كنت ع ارض الواقع بتختلف نظريتك قليلا وما. منحكي غير الله يعينهم ع هاد الحمل ويلي عم يصير هو الصح حاليا مافي مجال حدا غريب يدخل فيهم ونندم بعدين مثل غيرنا بظن وصلت الفكره
ردحذف