حول توظيف الفكر النهضوي في تفكيك الخطاب الشعبوي
في حلقة من برنامج موازين للأستاذ وضاح خنفر بعنوان "الأمة بحاجة لإعادة بناء سقفها الحضاري" يقدم مفهوم "البحث عن المشتركات" تحت سقف حضاري واحد بديل للأيديولوجيا التي كانت توحد الناس ولكنها تصنع الفروق؛ أنا أرى أن هذه الدعوة لا تخلو من بعض الطوباوية كغيرها من الدعوات الإصلاحية ذات الطابع التوجيهي العام التي تحمل نقيضها في صميم تكوينها، فهي ما إن تنطلق من الحوار حول الكليّات حتى تصطدم بالجزئيات فتتحول إلى ايديولوجيا بفعل تقلّص نطاق الممكن.
كما أن ما وُصف في بداية الحلقة بأنه عصر "غياب الأيديولوجيا" قد يكون في الواقع عصر "تحول الأيديولوجيا". فحركة انحسار الأيدولوجيات الكبرى التقليدية (مثل القومية والاشتراكية) جاءت بفعل ظهور أيدلوجيا مقترنة بالخطاب الإسلامي واكتسابها قدرة استقطابية قلّصت من نطاق شعبية باقي الأيدولوجيات، وأسهمت في تحويلها إلى أنماط أقل حدة قد تعود مدفوعة بحركة الاقصاء الاجتماعي. ما لم يتم تبني دعوة الاستاذ وضاح إلى تأسيس خطاب ديني نقي من التوظيف السياسي، متجدد في لغته، وقادر على نقل المقاصد الكبرى للدين بلغة يفهمها الناس، وتلامس واقعهم وهمومهم. دعوة التوجيه العام التي قد تعيدنا إلى دائرة التناقض الداخلي بفعل اصطدام الكليّات بالجزئيات.
دعوة البحث عن المشتركات قابلة للتطبيق ضمن الإطار الضيّق، ويمكن توظيفها لتحييد خطاب الشعبوية واستقطاب الأكثرية السائد في سوريا اليوم، وهي دعوة تتفق ضمن المجال التنظيري مع ما طرحه مالك بن نبي في كتابه "التأملات" حيث يشبّه المجتمع بالطفل الذي يمر بمراحل تطور، بدءًا من التركيز على "عالم الأشياء" (الماديات) إلى "عالم الأشخاص" (العلاقات الإنسانية والاجتماعية)، وأخيرًا إلى "عالم الأفكار" (القيم والمبادئ التي تحرك الحضارة) والنهضة لا تتحقق بالتركيز على الماديات فحسب (كضخ رأس المال)، بل تتطلب انتقالًا نوعيًا إلى عالم الأفكار، حيث يتم إصلاح النفوس وإحياء القيم المشتركة.
البشر البدائيون عبدوا الصنم والنار والحجر (عالم الأشياء) ثم عبدوا البشر (عالم الأشخاص) والإسلام جاء ليؤكد أن العالم الرحب الذي يمكن أن يدخله الإنسان ويرفع مستواه الحضاري والإنساني هو (عالم الأفكار).
ما نلاحظه اليوم في المجتمع السوري من مظاهر التقديس غير العقلانية لشخوص السلطة يشير إلى أن هناك فئة من مجتمعنا لازالت في المرحلة الوسطى من مراحل النضج، وهذا يتناقض مع المبادئ الأساسية للحكم الرشيد والمسؤولية الاجتماعية، لأنه يحول المسؤول إلى رمز مطلق فوق النقد، مما يعطل المحاسبة ويفتح الباب للاستبداد. احترام شخوص السلطة ينبغي أن ينبع من نطاقين، الأول هو نطاق المسؤولية: حيث يُنظر إلى الحاكم كـ "راعٍ" لا لذاته وإنما لكونه مسؤول أمام الله والناس، وفي هذا السياق جاء في الأثر عن علي رضي الله عنه: "لا تعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله"، وقال بعض العلماء: "من عرف الحق بالرجال حار في متاهات الضلال". والنطاق الثاني هو نطاق القيم الإنسانية المشتركة: حيث يُحترم المسؤول لكونه جزء من النسيج الاجتماعي، وهو ما يندرج في إطار المشتركات الإنسانية.
يجب علينا تجاوز مظاهر تقديس الشخص والتركيز على بناء نظام يقوم على المشتركات الفكرية، للارتقاء من (عالم الأشخاص) إلى (عالم الأفكار). فالاحترام الحقيقي للسلطة هو لدورها في خدمة المجتمع، وليس لأشخاصها كأفراد. نعم، لا نغفل مدى تعقيد المشهد وما تواجهه السلطة الحالية من تحديات، لكن إحاطة شخوصها بهالة القداسة تُعيدنا إلى إنتاج حالة الاغتراب الداخلي، التي كانت أحد مواضع الخلل في النظام السابق.
البحث في الأُطر النظرية ضروري اليوم، فنحن أمام مرحلة تسودها "النزعة المادية" التي علمنا التاريخ أنها غالبًا ما تتزامن مع مرحلة النمو الاقتصادي، هذه المرحلة تتطلب منا إعادة النظر في مواضع الخلل الداخلية للبناء على أُسس مستقرة، فتدفق رأس المال يشبه الخرسانة الثقيلة التي تحتاج إلى أرضية فكرية وحضارية متينة لتحقيق تنمية حقيقية ومستدامة. والحضارة - وفق توصيف مالك بن نبي في كتاب "شروط النهضة" - تتطلب إصلاح الإنسان أولاً، ثم تنظيم المجتمع واستغلال الموارد بفعالية، بدون ذلك، قد نرى دمشق نموذجًا من نماذج عواصم الاسمنت ذات القوالب المفرغة من مضامينها الفكرية والحضارية.
مقال رائع أبو النور الغالي .. لا بد أولاً من إعادة التأهيل للنفوس التي طغت عليها المادة ( كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) الإصلاح بداية يأتي من أصحاب النفوذ والقرار ، يبدأ في الحاكم أولاً ، مروراً بالأب والأم والعالم في المسجد والمعلم في المدرسة يقول أحد المستشرقين : إذا أردت أن تهدم حضارة أمة ، فهناك وسائل ثلاث هي : هدم الأسرة ، هدم التعليم ، إسقاط القدوات و المرجعيات .. وللأسف هذا حالنا اليوم
ردحذف